قد تُصادف شخصًا ويقول لك الجملة الآتية: "الكلام الكثير والمتكرر الذي يعيدُه صاحبه، والجمل الطويلة التي تدور حول الفكرة نفسها والمعنى نفسه، من الأمور التي لا تفيد صاحبها ولا تنفعه، كما أنّها تشغل بال المتلّقي"، وفي الوقت نفسه قد يأتي آخر ويقول لك: "خير الكلام ما قلّ ودلّ"، في الحقيقة كلا الجملتين أدّت المعنى نفسه، ولكن الجملة الأولى عمد الشخص فيها إلى الإطالة، أمّا في الجملة الثانية فقد أوجزَ القائل المعنى في جملة واحدة، وهذا ما يسمى في البلاغة بـ "الإيجاز"، وقد عرّفه أبو هلال العسكري على أنّه قُصور البلاغة على الحقيقة، وما تجاوز ذلك فهو داخل في باب الهذر، وهذا المقال سيركّز على موضوع الإيجاز من خلال تعريفه، وتوضيح نوعيه، وطرح الأمثلة والتدريبات العمليّة عليه.[١]


تعـــــــريـــف الإيـــجـــــاز

يُعرّف الإيجاز على أنّه وضع المعاني الكثيرة في أقل عدد من الألفاظ، وافية بالغرض المقصود، مع الإبانة والإفصاح، وهو جمع المعاني المُتكاثرة تحت اللفظ القليل، والجدول الآتي يوضّح بعض الأمثلة التي ورد فيها الإيجاز:[٢]


الجـــــــــمــــلـــة
تـــــوضـــيـــــــح الإيــــــجـــــاز
قال الله تعالى: "أَلا لَـــهُ الخــلــقَ والأمــرُ".[٣]
في هذه الآية الكريمة الجملة المكوّنة من أربع كلمات استوعبت جميع الأشياء والشؤون على وجه الاستقصاء، والعبارة توضّح معاني كثيرة تتعلّق بالخالق وعظمته، وقدرته ووحدانيته.
قيل لأعرابي يسوقُ مالًا كثيرًا: لمن هذا المال؟، فقال: لله في يدي.
ردّ الأعرابي غاية في الإيجاز، فلم يُفصّل كثيرًا في ردّه واكتفى بتوضيح أنّ الملك ملك الله وأنّه مستخلف ومُستأمن على هذا المال بقوله: لله في يدي.
جاء في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كِسرى: أسلِم تَسْلَم.
قول الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية الإيجاز والاختصار، ومعناه اعرف الإسلام وادخُل فيه، وسلّم أمرك لله بالطاعة والانقياد له والإخلاص التام، فإذا حقّقت هذه الأمور سلّمت نفسك من العذاب.


أنـــــــــواع الإيـــجـــــاز

ينقسم الإيجاز في العربية إلى قسمين إيجاز قصر، وإيجاز حذف، والجدول الآتي يوضّح كل نوع من خلال ذكر التعريف مع مثال توضيحي:[٤]


نــــوع الإيـــجـــــاز
المـــــــــــثال التــــــــــــوضـــــيحي
إيجاز قصر: ويكون بتضمين العبارات القصيرة معاني قصيرة من غير حذف.
قال تعالى:" ولكم في القصاص حياةٌ"،[٥] في هذه الآية الكريمة اختصار لثلاثة أمور: الحُكم، والغاية من الحُكم، وكيفية تنفيذ الحُكم، لذلك فهي عبارة مختصرة ولكنها جامعة، فالحُكم هو القصاص، والهدف منه هو الحياة، أمّا عن كيفية التنفيذ فهي بأن يُفعل بالجاني كما فعل، ففي هذه الآية إيجاز قصر.
إيجاز حذف: ويكون بحذف كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينة تُعيّن المحذوف.
في قوله تعالى: "حُرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير"،[٦] العقل يدلّ على الحذف، والتقدير حرّم عليكم تناول الميتة والدّم ولحم الخنزير، لأنّ الغرض الواضح من الآية والمقصود منها هو تحريم تناولها.


*إضـــــــــاءة*



يُستحسن الإيجاز في الاستعطاف، وشكوى الحال، والاعتذارات، والتعزية، والعتاب، والوعد والوعيد، والتوبيخ، ورسائل طلب الخراج، وجباية الأموال، والأوامر، والشكر على النعم، ورسائل الملوك في أوقات الحرب إلى الولاة.[٧]




مـــــثــــال تـــدريـــبــــي (1)

حدّد نوع الإيجاز في الآيات التالية، ثم وضّحه:[٢]


الجــــــمــــــلــــة
تــــــــــــــــوضـــــــيـــــــــــح نـــــــــــوع الإيــــــجــاز
قال تعالى:" فأَمّا الذين اسودّت وجوههم، أكفرتم بعد إيمانكم".[٨]
في الآية الكريمة إيجاز بالحذف فقد حُذف جواب أَمّا، وأصل الكلام: فيُقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم.
قال تعالى:" أولئك لهُمُ الأمن".[٩]
في الآية الكريمة إيجاز قصر، لأن كلمة الأمن يدخل تحتها كل أمر محبوب، فقد انتفى بها أن يخافوا فقرًا، أو موتًا، أو جورًا، أو زوال نعمة، أو غير ذلك من أصناف المكاره.
قال تعالى:" أخرجَ منها ماءها ومرعاها".[١٠]
في الآية الكريمة إيجاز قصر، فقد دلّ الله سبحانه وتعالى بكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتًا ومتاعًا للناس، من العشب، والشجر، والحطب، واللباس، والنار، والماء.
قال تعالى:" وما كان معه من إله، إذًا لذهب كل إله بما خلقَ، ولعلا بعضهم على بعض".[١١]
في الآية الكريمة إيجاز بحذف جملة الشرط فتقدير الكلام، لو كان معه إله إذًا لذهب كل إله بما خلق، وفي جملة جواب الشرط إيجاز قصر، فإن ألفاظها قليلة ومعانيها كثيرة، وحجتها دامغة، فإنّها تقيم البرهان على وحدانية الإله وتفرّده في تدبير الكون بكلام لا يوازيه في الاختصار شيء.


مـــــــثــــال تـــدريـــبـــي (2)

وضّح جمال الإيجاز في العبارة الآتية:[٢]

كتب طاهر بن الحسين إلى المأمون، وكان واليه على عماله بعد هزمه عسكر علي بن عيسى بن ماهان وقتله إيّاه: "كتابي إلى أمير المؤمنين، رأس عليّ بن عيسى بن ماهان بين يديّ، وخاتمه في يدي، وعسكره مُصرّف تحت أمري والسلام":

هذا الكتاب على قلة ألفاظه حوى جميع ما يريد المأمون أن يطلع عليه من أحوال القتال، واتجاه النصر فيه، وجماله في وضوح معانيه وشفائه نفوس سامعيه وتركه فضول الكلام، ولأن كاتبه يعلم أنّ المأمون متطلّع إلى معرفة نتيجة القتال، فأراد أن يُعجّل له المسرّة فاختار لذلك الإيجاز.


لمزيد من الاستفادة يمكنك الاطلاع على مقال: "الإطناب في البلاغة"، و"الإيجاز والإطناب والمساواة في البلاغة"


المراجع

  1. عبد العزيز عتيق، علم المعاني، صفحة 174-175. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، صفحة 240-244. بتصرّف.
  3. سورة الأعراف، آية:54
  4. سورة البقرة ، آية:179
  5. سورة المائدة ، آية:3
  6. أحمد الهاشمي، جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، صفحة 200. بتصرّف.
  7. سورة آل عمران ، آية:106
  8. سورة الأنعام ، آية:82
  9. سورة النازعات ، آية:31
  10. سورة المؤمنون ، آية:91