يُعدّ الإنشاء بابًا من أبواب البلاغة وينقسم إلى نوعين: إنشاء طلبي وإنشاء غير طلبي، ويُقصد بالإنشاء غير الطلبي الإنشاء الذي لا يستدعي مطلوبًا، وله صيغ كثيرة منها التعجب والمدح، والذم، والقسم، وأفعال الرجاء، وصيغ العقود، فأنتَ عندما تقول: ما أجملَ المدينة! أنت فقط تُعبّر عن مشاعر معينة ولا تستدعي مطلوبًا، على العكس من الإنشاء الطلبي فالإنشاء الطلبي يستدعي مطلوبًا غير حاصل وقت الطلب، ويأتي بالأمر، والنهي، والاستفهام، والتّمني، والنّداء، فلو قلتَ مثلًا: أينَ مكتبة الجامعة؟، فإنّك تطلب جوابًا غير حاصل وقت الطلب، وهذا المقال سيركّز على نوع من أنواع الإنشاء الطلبي وهو الأمر، وسيوضّح التفاصيل المتعلقة به من خلال تعريفه وبيان صيغه، إلى جانب بيان المعاني البلاغيّة التي يخرج إليها، وطرح الأمثلة والتدريبات العمليّة عليه.[١]


تعريـــف الأمــر وبيــان صيغــه

يُعرّف الأمر على أنّه كلمة تدّل على معنى مطلوب تحقيقه في زمن المستقبل، والأمر بلاغيًا يُقصد به طلب حصول الفعل على وجه الاستعلاء، وللأمر صيغ أربع يوضّحها الجدول الآتي:[٢]


صيــــــغــــة الأمــــــر
المـــثـــــال التــــوضــــيحــــي
فعــــــل الأمــــر
قال الشاعر: أحــسِنْ إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ، كلمة أَحسِن في بيت الشعر فعل أمر.
المضارع المقرون بلام الأمر
قال تعالى: "وليوفوا نذورهم، وليطوّفوا بالبيت العتيق"،[٣] كلمتا (ليوفوا) و(ليطوّفوا) عبارة عن لام الأمر + فعل مضارع.
اسم فعــــــل الأمــــــــــر
قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم"،[٤] كلمة (عليكم) اسم فعل أمر.
المصــدر النــائب عن فعـــل الأمر
قال تعالى: "وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا[٥] كلمة (إحسانا) مصدر نائب عن فعل الأمر.


المعاني البلاغية التي يخرج إليها الأمر

المعنى الحقيقي للأمر هو طلب حصول الشيء على وجه الاستعلاء، ويكون الأمر الحقيقي من الأعلى منزلة إلى الأقل منزلة، ومثال ذلك قول الأُستاذ للطالب: اُكتب واجبكَ، واستعدّ للامتحان، فالأمر في هذه الجملة أمر حقيقي لأنّ الأستاذ أعلى منزلة من الطالب، ولكن قد يخرج الأمر عن معناه الحقيقي إلى معان بلاغية أُخرى يوضّحها الجدول الآتي:[٦]


الجـــمـــلــة
توضيـــح الأمر والمعـــنى البـــلاغي الـــذي خـــرج إلـــيه
قال الشاعر:
رُبّ عامٍ أنتَ فيه واجد *** فادّخرْ فيه لعامٍ لا تجــــد
عَلّمْ الآبآء واهتِفْ قائلًا *** أيّها الشعب تعاونْ واقتصِدْ
أفعال الأمر الواردة في بيت الشعر على الترتيب هي: (ادّخِرْ، عَلّمْ، واهتِفْ، وتعاونْ، واقتصِدْ)، والشاعر قد قالها ولم يقصد بها المعنى الحقيقي للأمر بمعنى أنّك يجب أن تفعل هذه الأمور، وإنّما خرج الأمر إلى معنى بلاغي وهو النصح والإرشاد.

قوله تعالى: "ربّنا آتنا من لدنك رحمة وهيّئ لنا من أمرنا رشدا".[٧]
أفعال الأمر الواردة في الآية الكريمة (آتنا، هيّئ) من الأدنى منزلة (العبد) إلى الأعلى منزلة (الله عز وجل)
لذلك فإنّ الأمر هنا خرج عن معناه الحقيقي فلا يمكن أن يكون المقصود بأفعال الأمر الأمر الحقيقي، وإنّما قُصد بها الدّعاء وهو الغرض البلاغي الثاني الذي يخرج إليه الأمر.
قال امرؤ القيس:
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلِي***بصُبحٍ وما الإصباح منك بأمثَلِ
يُخاطب الشاعر الليل في هذا البيت الشعري ويطلب منه أن ينجليَ، والليل لا يسمع ولا يرى ولا يتكلّم حاله حال الشمس والقمر وغيرها من الألفاظ، لذلك فإنّ فعل الأمر (انجلِي) لم يُقصد به المعنى الحقيقي للأمر أي أن ينجلي الليل على سبيل الإلزام وإنّما قُصد به التّمني.
قال جار لجاره: ساعِدْني في إزالة الثلج عن الرصيف.
عندما استخدم الجار فعل الأمر (ساعِدْني) لم يقصد به الأمر الحقيقي على وجه الإلزام والتكليف، لأنّ الأمر إذا كان موجهًا لمن هو في المنزلة نفسها، خرج إلى غرض بلاغي هو الالتماس.
قال الشاعر:
فَعِــشْ واحدًا أو صِلْ أخاك فإنّه*** مُقارف ذنبٍ مرةً ومجانبه
استخدام الشاعر لأفعال الأمر (عِشْ) و (صِلْ) لم يأتِ على سبيل الإلزام، وإنّما خرج الأمر إلى معنى بلاغي هو التخــيــير.
قال تعالى: "هذا خلقُ الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه".[٨]
فعل الأمر (أرونِي) في الآية الكريمة خرج إلى معنى بلاغي هو التعجيز، فمن المستحيل أن يخلقوا كخلقه جل وعلا.
قال تعالى: "اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم".[٩]
فعل الأمر (اصبروا) الوارد في الآية الكريمة خرج إلى معنى بلاغي هو التسوية، فالله عز وجل يُخبر المُعذّبين في نار جهنّم أنّ صبرهم على النّار أو عدم صبرهم سواء، لن يغيّر من الأمر شيئًا.
قال الشاعر:
إذا لم تخشَ عاقبة الليالي *** ولم تستحِ فاصنعْ ما تشاء
فعل الأمر (اصنَعْ) في الشطر الثاني من البيت الشعري خرج إلى معنى بلاغي هو التهديد، بالتأكيد لا يمكن للإنسان أن يفعل ما يشاء دون حدود، ولكن القصد إذا لم تخشَ عاقبة الليالي ولم تستحِ اصنع ما تشاء، ولكن تحمّل ما يأتيك بعد ذلك.
قال تعالى: "وكُلُوا واشربُوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".[١٠]
أفعال الأمر (كلوا) و (اشربوا) على الترتيب في الآية الكريمة تفيد الإبــاحة، فالقصد من الآية الكريمة إباحة الأكل والشرب ليلة الصيام بلا وجه إلزام.
قال الشاعر:
فدَعْ الوعيد فما وعيدُك ضائري***أَطنينُ أجنحة الذّباب يضير
فعل الأمر (دَعْ) في قول الشاعر يفيد التّحقـــير، فالشاعر لا يكترث بتهديد المُخاطَب ويخبره بأنّ وعيده بالنسبة إليه مثل طنين أجنحة الذّباب لا قيمة له، وهو بذلك يحقّر المخاطب ويقلّل من شأن وعيده.


مثال تدريبي

اُكتب بجانب كل جملة من الجمل الآتية المعنى البلاغي الذي خرج إليه الأمر:


الجـــمــــلـــة
المعنى البلاغي الذي خرج إليه الأمر
قال تعالى: "قُل تمتّعوا فإنّ مصيركم إلى النّار".[١١]
الـتّهـــديـــــد
قال خالد بن صفوان لابنه: دعْ من أعمال السّر، ما لا يصلُح لك في العَلن.
النّصـح والإرشــاد.
قال الشاعر: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعًا *** أبشر بطول سلامة يا مربع
التّحقـــــــير
قال الشاعر: أريني جوادًا ماتَ هُزلًا لعلّني *** أرى ما ترينَ أو بخيلًا مخلّدا
التّعجـــــــــيز
قال زميل لزميله:" ساعدْني في حلّ الواجب".
الالتـــــــــماس



المراجع

  1. علي الجارم ومصطفى أمين ، البلاغة الواضحة، صفحة 170. بتصرّف.
  2. عباس حسن ، النحو الوافي، صفحة 48. بتصرّف.
  3. سورة الحج، آية:29
  4. سورة المائدة ، آية:105
  5. سورة الإسراء، آية:23
  6. علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، صفحة 176-179. بتصرّف.
  7. سورة الكهف، آية:10
  8. سورة لقمان ، آية:11
  9. سورة الطور، آية:16
  10. سورة البقرة ، آية:187
  11. سورة إبراهيم، آية:30